Kullanım Kılavuzu
Neden sadece 3 sonuç görüntüleyebiliyorum?
Sadece üye olan kurumların ağından bağlandığınız da tüm sonuçları görüntüleyebilirsiniz. Üye olmayan kurumlar için kurum yetkililerinin başvurması durumunda 1 aylık ücretsiz deneme sürümü açmaktayız.
Benim olmayan çok sonuç geliyor?
Birçok kaynakça da atıflar "Soyad, İ" olarak gösterildiği için özellikle Soyad ve isminin baş harfi aynı olan akademisyenlerin atıfları zaman zaman karışabilmektedir. Bu sorun tüm dünyadaki atıf dizinlerinin sıkça karşılaştığı bir sorundur.
Sadece ilgili makaleme yapılan atıfları nasıl görebilirim?
Makalenizin ismini arattıktan sonra detaylar kısmına bastığınız anda seçtiğiniz makaleye yapılan atıfları görebilirsiniz.
 ASOS INDEKS
 Görüntüleme 2
أواصر العناصر الكونية من منظور الأستاذ النورسي - Dr. ‘Uthman Muhammad Gharib: The Bonds of the Universal Elements from the Viewpoint of Bedi‘uzzaman al-Nursi
2014
Dergi:  
AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization
Yazar:  
Özet:

أواصر العناصر الكونية من منظور ا أواصر العناصر الكونية من منظور الأستاذ بديع الزمان النورسي -ABSTRACT- The Bonds of the Universal Elements from the Viewpoint of Bedi'uzzaman al-Nursi Dr. 'Uthman Muhammad Gharib The researcher indicates the bonds of the elements of the universe as reflected in the "Nur Letters", which is a vision that elucidates the comprehensive identity of man. That identity is connected to the manifestations of existence and elements in the universe and it is connected with them by various bonds. This places man into a continuous interaction with the rest of the beings; and sees man's connection with the universe as like that of a soul that combines with the other parts of the body to make all its parts in full co-operation with each other. So man becomes the final fruit of the tree of the universe; who contains all its features, and at the same time is the original proof of the existence of the Muhammadan reality and the great cosmic prodigy of the Quran of the universe. Man is the greatest divine miracle; he is even the marvel of creation and his desires point to the biggest of realms as a result of his organs witnessing his eternal destiny. The bonds between man and the universe have been demonstrated in many examples; such as the worshipping of God, love, knowledge, benefit, discipline, and the bonds of beauty. *** - ملخص البحث - د. عثمان محمد غريب1 قصد الباحث التأكيد على أواصر العناصر الكونية كما تجلت في رسائل النور، وهي رؤية عمدتها الماهية الجامعة للإنسان، تلك الماهية الوثيقة الصلة بمظاهر الوجود وعناصر الكون، وترتبط بها بأواصر ووشائج شتى مما يجعل الإنسان في أخذ وعطاء مع بقية الكائنات، فكان الإنسان بالنسبة للكون كالروح التي ترتبط بعلاقات وأواصر مع جميع أنحاء الجسم، حتى تجعل جميع أعضائه وجميع أجزائه، في تعاون تامٍّ فيما بينها، فكان الإنسان خاتمة ثمرات شجرة الكون وأجمعُ ما فيها من الصفات، وهو في الوقت نفسه بذرتها الأصلية من حيث الحقيقة المحمدية، والآية الكونية الكبرى لقرآن الكون.. وهو أعظم معجزات القدرة الصمدانية بل هو أعجوبة الخلق لما انطوى فيه العالم الاكبر ولما تشهد جميع أجهزته بأنه مخلوق للسير قدما نحو الأبدية والخلود، وقد تجلت أواصر ربط الإنسان بالكون في أواصر كثيرة منها العبادة لله، والمحبة، والمعرفة، والتسخير والتثمير، والتأديب، وآصرة الجمال. *** الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد فمما لا يقبل المراء والجدال أن سوء فهم هذا الكون الفسيح وعدم إدراك أواصر عناصره وعدم التعامل معه مَعرفيا واستعمارا واستثمارا وتسخيرا من أكثر أسباب الانحطاط والتخلف التي جعلت الأمة الإسلامية في نهاية الركب وذيل القافلة، فتأخرنا من حيث تقدم غيرنا، وتخلفنا من حيث ازدهروا. لذا ارتأيت أن يكون بحثي هذا محاولة مني لكشف أهم الأواصر والوشائج بين الإنسان وبقية عناصر الكون كما رآها الأستاذ بديع الزمان النورسي -رحمه الله- ونثرها كالدرر في رسائله، وحاول جاهدا التعرفَ عليها وعلى مواطن الخلل ومواضع الزلل في حياة الأمة الإسلامية. وأردت بهذا أن أَلفِتَ الأنظارَ إلى هذا الجانبِ المشرقِ من رسائل النور، وأُقدِّمَ الأدويةَ التي وصفها الأستاذُ لأمراض الأمة وعللِها من هذا الجانب. وقد قسمت بحثي إلى تمهيد في التعريف بالإنسان والكون عند النورسي، وفذلكة بين يدي الأواصر والوشائج، وعدة مطالب مخصصةٍ للأواصر بين الإنسان وبقيةِ عناصر الكون، ونبين من خلال ذلك أهمية تفعيل تلك العلاقة على التقدم في جوانبه المختلفة، وهي كالآتي: الآصرة الأولى: آصرة العبادة لله (تسبيحا وسجودا). الآصرة الثانية: آصرة المحبة. الآصرة الثالثة: آصرة المعرفة. الآصرة الرابعة: آصرة التسخير والتثمير. الآصرة الخامسة: آصرة التأديب. الآصرة السادسة: آصرة الجمال. ونختم البحث بأهم النتائج التي توصلنا إليها في بحثنا هذا. وبـهذا يتبين أن ارتباط الإنسان مع هذا الكون إنما هو كالروح التي ترتبط بعلاقات وأواصر مع جميع أنحاء الجسم، حتى تجعل جميع أعضائه وجميع أجزائه، في تعاون تامٍّ فيما بينها، ولا يحجبها شيءٌ عن إدارة شؤون كل جزء من أجزاء الجسم، وإيفاء حاجات الجسم بكل جزء من أجزائه، وتقدر الروح على مدّ عضو واحدٍ بأمدادٍ من سائر الأعضاء، وتستطيع أن تسوق الأعضاء الأخرى إلى خدمته، بل تقدر أن تعرِف جميعَ الحاجات بكل جزءٍ من أجزاء الجسم، وتدير من هذا الجزء الواحد الجسمَ بأكمله، بل تتمكن الروح أن ترى وتسمع بكل جزء من أجزاء الجسم إن كانت قد اكتسبت نورانية أكثر -كما قال الأستاذ-. وفي هذه العجالة أريد أن أقدم معتصر المختصر لهاته الأواصر والوشائج، أسأل المولى -عزَّ وجلَّ- أن يعيننا على ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه. تمهيد في التعريف بالإنسان والكون قديما قال المناطقة: الحكم على الشيء فرع تصوره، ومن هنا أصبح علينا لزاما أن نعرف بأهم المصطلحين البارزين في عنوان البحث: الإنسان والكون. وكان من المفروض أن نقدم تعريف الكون على تعريف الإنسان لزوما من باب تقديم الكل على الجزء، ولكن عندما ندقق النظر في آيات الذكر الحكيم يظهر لنا جليا أن الإنسان هو غاية الكون وثمرته لذا ارتأينا تقديم الإنسان تقديما للأهم على المهم والغاية على الوسيلة. أولا: الإنسان كما يراه الأستاذ بديع الزمان يختلف تماما عن الإنسان في منظور الفلاسفة، ففي الوقت الذي يختلف الفلاسفة فيما بينهم مترددين في بيان ماهية الإنسان وأهميته، مابين قول بكونه مجرد آلة في هذا الكون، أو جزء حقير أمام هذا الكون الفسيح، أو مجرد حيوان أذكى استطاع أن يسخر غيره لمصالحه، نرى الأستاذ -حاله حال مولانا جلال الدين الرومي- ينأى بنفسه بعيدا عن كل هاته المعمعات الفلسفية العقيمة وينظر إلى الإنسان من زاوية أخرى يكون الإنسان فيها أعلى رتبة وأنبل غاية وأسمى فكرا، ومع هذا لا يخلو هذا الإنسان من عيوب ونقائص ربما لا تلقيها في غيره.! يقول الحكماء يأن الإنسان هو العالَم الصغير، والعالَم هو الإنسان الكبير، لكن مولانا جلال الدين جاء وعكس المفهوم لأنه لا يوجد في الخليقة أعظم من الإنسان، فنسمعه يقول: إذن أنت في الصورة العالَمُ الأصغر، وأنت في المعنى العالَمُ الأكبر. وفي الظاهر يكون الغصن أصلا للثمرة، لكن الفرع في الحقيقة من أجل الثمرة. فإن لم يكن الميل إلى الثمرة والأمل فيه، فمتى كان البستاني يغرس جذور الشجر؟! ومن ثم فإن ذلك الشجر على سبيل المعنى ولد من الثمر، وإن كان الثمر قد ولد منه على سبيل الصورة.2 وأما الإنسان عند الأستاذ بديع الزمان فله مميزات خاصة به تميزه عن غيره من مخلوقات الله في الكون! فبالإضافة إلى أنه أكرم المخلوقات وأشرفها نرى الأستاذ يعرف لنا الإنسان تعريفا دقيقا بأنه: "هو خاتمة ثمرات شجرة الكون وأجمعُ ما فيها من الصفات. وهو بذرتها الأصلية من حيث الحقيقة المحمدية. وهو الآية الكونية الكبرى لقرآن الكون.. بل هو الآية الحاملة لتجليات الاسم الأعظم في ذلك القرآن الكوني كآية الكرسي في القرآن الكريم. وهو أكرم ضيف في قصر الكون. وهو أنشط موظف مأذون له بالتصرف في سكنة ذلك القصر. وهو المأمور المكلف بحرث مزرعة الأرض والناظر المسؤول عن وارداتها ومصاريفها، بما جُهز من مئات العلوم وألوف المؤهلات. وهو خليفة الأرض، والمفتش الباحث في مملكة الأرض والمرسل من لدن سلطان الازل والابد والعامل تحت رقابته. وهو المتصرف في شؤون الأرض مع تسجيل كامل لأعماله بجزئياتها وكلياتها. وهو عبد كليّ، مكلف بعبادة واسعة شاملة، والحامل للأمانة الكبرى التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها، وهو الذي يعكس كالمرآة جميع تجليات الأسماء الحسنى ويتجلى فيه اسم الله الأعظم. وهو المخاطب المقصود للخطاب السبحاني والأكثر فهماً للكلام الرباني. وهو الأكثر فاقة وعجزاً من بين أحياء الكون. وهو الكائن الحي العاجز الفقير بلا حدود، مع أن له أعداء ومؤذيات بلا عد ومقاصد وآلاماً بلا حد. وهو أغنى استعداداً من بين ذوي الحياة. وهو أشد إحساسا وشعوراً بالألم -ضمن لذة الحياة- حيث تمتزج لذاته بآلام منغّصة. وهو أشد شوقاً إلى البقاء وأكثر حاجة إلى الخلود، بل هو الأجدر به.. وهو الذي يتوسل لأجل البقاء والخلود بأدعية غير محدودة فلو أُعطي له ما في الدنيا من متع لما شفت غليله للخلود. وهو الذي يحب الذي أنعم عليه حباً لحد العبادة، ويحببه للآخرين، وهو المحبوب أيضا. وهو أعظم معجزات القدرة الصمدانية بل هو أعجوبة الخلق لما انطوى فيه العالم الأكبر ولما تشهد جميع أجهزته بأنه مخلوق للسير قدما نحو الأبدية والخلود. "3 ثم يذكر لنا الأستاذ أن أفراد الإنسان متفاوتة في الفضل والرتبة، فقد فضل الله بعضها على بعض، و"أعظم آية في كتاب الكون الكبير، وأعظم اسمٍ في ذلك القرآن الكبير، وبذرة شجرة الكون، وأنور ثمارها، وشمس قصر هذا العالم، والبدر المنوّر له، والدال على سلطان ربوبية الله، والكشّاف الحكيم للغز الكائنات، هو سيدنا محمد الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي ضم الأنبياء جميعاً تحت جناح الرسالة وحمى العالم الإسلامي تحت جناح الإسلام، فحلّق بهما في طبقات الحقيقة متقدماً موكبَ جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأولياء والصديقين، وجميع الأصفياء والمحققين. "4 وهذا يعني أن سيدنا محمد يساوي جميع من سبقه من الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام. از دِرَم ها نام شاهان برکَنَند -نــامِ احـمــــد تـا ابـــد بـر مـی زننــد نامِ احمـد نامِ جمله انبیــاست- چون که صد آمد، نود هم پیش ماست.5 المطلب الثاني: تعريف الكون عند الأستاذ -رحمه الله-: الكون في نظر الأستاذ بديع الزمان هو "مسجد كبير وكتاب منير مليء بآيات تكوينية يتلوها القرآن الكريم على الثقلين. "6 ونراه كذلك يعرفه بمثله في سياق عتابه للنفس الكسول ويقول: "ولو كانت لديك وسيلة -أيها الإنسان- لقتل الموت، ولإزالة الزوال عن الدنيا، ولو كان عندك دواء لرفع العجز والفقر عن البشرية، ووساطة لغلق باب القبر إلى الأبد، فهاتها إذن وقُلها لأسمع وأطيع.. وإلاّ فاخرس، فان القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا. فلننصت اليه، ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم، حتى يكون لساننا رطباً بذكره وتلاوته".7 وكذلك أثناء كلامه عن وجود الملائكة وعملهم في الكون ويقول: "فلابــد أن تكون لهذه الوظائف غير النهائية والعبادات المتنوعة، أنواع غير نهائية أيضا من "الملائكة" وأجناس غير محدودة من "الروحانيات"، كي يعمّروا بصفوفهم المتراصّة ويملؤوا هذا المسجد الكبير.. هذا العالم.. هذا الكون ".8 فذلكة الأواصر والوشائج مما لا يقبل المِراء أن الإنسان ليس كائنا انعزاليا يعيش بمفرده منطويا على ذاته، وبما أودع الله فيه من ماهية جامعة يرتبط مع مظاهر الوجود وعناصر الكون بأواصر ووشائج شتى مما يجعله في أخذ وعطاء مع بقية الكائنات، فهو ليس من مادة بسيطة وجامدة تأبى التغير، بل هو معمل عظيم متقن الصنع، أجهزته دائمة التجدد، وكالقصر المنيف، أنحاؤه دائمة التحول، وذرات وجوده تعمل دوماً وتسعى دون توقف، وترتبط بوشائج وأواصر عديدة متنوعة شاملة لجميع مجالات الكون مع مظاهر الوجود في الكون من حوله، والذرات العاملة في جسده تحتاط من أن تخل بتلك الروابط، وتتحاشى أن تنفصم تلك العلاقات، فهي حذرة في تصرفها هذا، وتتخذ موقفاً ملائماً لها على وفق تلك العلاقات كأنها تنظر إلى جميع الكائنات وتشاهدها وتتفاعل معها.9 فيا أيها الإنسان الباحثُ عن الحقيقة أعِر سمعَك للأستاذ النورسي لحظات واستخرج من بحر كلماته اللؤلؤ والمرجان. المطلب الأول: الآصرة الأولى: آصرة العبادة لله (تسبيحا وسجودا) من المعلوم أن الذكر الحكيم قد أخبرنا بأن الكون بأسره في تسبيح دائم للخالق العظيم والرب الرحيم. كما في قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.الحديد:1 وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾.الإسراء:44 فلم يبق في الكون في هذا الكون الفسيح إلا أنت أيها المسكين ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾.الحجر:98 "فيا أيها الغافل المسكين، ويا مَنْ يظن نفسَه هَملاً دون حساب، ويا مَنْ يغرق في نكران الجميل والكفران! إن الكريم ذا الجمال يعرّف نفسه ويحبّبُها إليك بهذا الحشد من الألسنة التي لا تعد ولا تحصى، وإن أردت أن تصرف نفسك عن ذلك التعريف، فما عليك الاّ أن تكمم جميع هذه الأفواه المسبحة، وتسكت تلك الألسنة كافة. وأنّى لك هذا!! فما دام إسكات تلك الألسنة الناطقة بالتوحيد غير ممكن، فما عليك إلاّ الإصغاء والإنصات إليها. وإلا فلن تنجو بمجرد سد الأذن بأصابع الغفلة، لأن عملك هذا لا يسكت الكون. فالكون جميعاً، والموجودات كافة ناطقة بالتوحيد. فدلائل التوحيد وأصداؤه شواهد عدل لا تنقطع ولا تنتهي أبداً. فلا بد أنها ستُدينك".10 "هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه، وهي سطح الأرض، ويُكتب في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع، ثلاثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معاً ومتداخلاً بعضها ببعض بلا اختلاط ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه كالشجرة، قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه كالبذرة، فهرس كتاب كامل. فكما ان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد أن وراءه قلماً سيالاً يسطر، فلكم إذن أن تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الأكبر المجسم وهو العالم، على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جل وعلا، قياساً إلى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرؤونه من علم حكمة الأشياء أو فن القراءة والكتابة، وتناوله بمقياس أكبر، وبالنظرة الواسعة إلى هذا الكون الكبير. بل تفهمون كيف يعرّف الخالقَ العظيم بـ "الله أكبر" وكيف يعلّم التقديس بـ "سبحان الله" وكيف يحبّب الله سبحانه إلينا بثناء "الحمد لله". الربوبية، بمعاملة غيابية، فأدّوا وظيفة التكبير والتسبيح، قائلين: الله أكبر".11 وتسبيحاتها؛ هي قيامها بوظائف حياتها بأبدع طراز بقوة الله سبحانه، وببذل الجهد في العمل. وعباداتها؛ هي هداياها وتحياتها التي تقدمها إلى الفاطر الجليل واهب الحياة.12 "ولكن.. أفضل هذه البلابل طراً وأشرفها وأنورها وأبهرها وأعظمها وأكرمها، وأعلاها صوتاً وأجلاها نعتاً وأتمها ذكراً وأعمها شكراً وأكملها ماهية وأحسنها صورة، هو الذي يثير الوجدَ والجذب والشوق في الأرض والسماوات العلى، في بستان هذا الكون العظيم، بسجعاته اللطيفة وتضرعاته اللذيذة، وتسبيحاته العلوية.. وهو العندليب العظيم لنوع البشر، في بستان الكائنات، بلبل القرآن لبني آدم، محمد الأمين، عليه وعلى أله وأمثاله، أفضل الصلوات وأجمل التسليمات".13 ثم إن الإنسان إذا قنت لربه بقلب سليم وسبح بلسان الحال والمقال فإن بقية عناصر الكون ستشاركه في ذلكم النشيد القدسي كما فعلوا مع سيدنا داود عليه السلام، قال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ﴾.ص:18 وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾.سَبَأ:34-10 ثم نرى الأستاذ النورسي يلفت أنظارنا وأنظار تلاميذه إلى الشجرة المنتصبة أمام غرفته، وهي "شجرة الدُلب ذات الأغصان الثلاثة، حيث تمثل كلمة عظيمة ينطق بها لسان هذا الجبل الموجود في فم "بارل" ألا ترى كم من مئات ألسنة الأغصان لكل رأس من رؤوس الشجرة الثلاثة، وكم من مئات ثمرات الكلمات الموزونة المنتظمة في كل لسان؟ وكم من مئات حروف البذيرات المجنحة في كل ثمرة من الثمرات؟ ألا يسبّح كلٌ من تلك الرؤوس والألسنة لمالك الملك الذي له أمر كن فيكون؟ ألا يسبّح بكلام فصيح، وبثناء بليغ واضح، حتى إنك تشاهد تسبيحاتها وتسمعها؟"!14 "هذه الآيات الكريمة التي تذكر معجزات سيدنا داود عليه السلام تدل على أن الله سبحانه قد منح تسبيحاته وأذكاره من القوة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبال في وجدٍ وشوق، وكأنها حاكٍ عظيم تردد تسبيحاتٍ وأذكاراً. أو كأنها إنسان ضخم يسبّح في حلقة ذكر حول رئيس الحلقة. نعم! إنها لحقيقة قاطعة، أليس كل جبل ذي كهوف يمكن أن يتكلم مع كل إنسان بلسانه، ويردد كالببغاء ما يذكره؟ فإن قلت "الحمد لله" أمام جبل، فهو يقول أيضاً: "الحمد لله" وذلك برجع الصدى.. فما دام الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه القابلية للجبال، فيمكن إذاً أن تنكشف هذه القابلية وتنبسط أكثر من هذ".15 ثم إن التسبيح الحقيقي ليس هو الدردمة اللسانية فقط، وإنما هو تسبيح باللسان والجوارح والجنان، إذ ليس كل من سبح بلسانه مسبحا في الحقيقة، فرب مسبح باللسان كفور بأعماله. وقال أبن الوردي: قد عجبنا لأميرٍ... ظلم الناس وسبح فهو كالجزار فيهم... يذكر الله ويذبح!!16 وفي الختام لنشارك الأستاذ النورسي -رحمه الله- في مناجاته ونردد معه: فَسُبْحانَكَ يا مَنْ تُسَبّحُ بِحَمْدِكَ السَّمآءُ بِكَلِمَاتِ نُجُومِهَا وَشُموُسِهَا وَاَقمَارِهَا، بِرُمُوزِ حِكَمِهَا. وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الجَوُّ بِكَلِمَاتِ سَحاباتِهِ وَرُعُودِهَا وَبُرُوقِهَا وَأمطَارِهَا، بِإشاراتِ فَوَائِدِهَا. وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ رَأسُ الأرض بِكَلِمَاتِ مَعَادِنِهَا وَنَبَاتَاتِهَا وَأشْجَارِهَا وَحَيْوَانَاتِهَا، بِدَلالاتِ انْتِظَامَاتِهَا. وَتُسَبّـِحُ بِـحَـمْـدِكَ النَّـبَاتَاتُ وَالأشْجَـارُ بِكَلـِمَاتِ أوْرَاقِـهَـا وَأزهَارهَـا وَثَمَرَاتِهَا، بَتَصْريحَاتِ مَنَافِعِهَا. وَتُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الأزهَارُ وَالأثْمَارُ بِكَلِمَاتِ بُذُورِهَا وَأجْنِحَتِها وَنَوَاتَاتِهَا، بِعَجَائبِ صَنْعَتِهَا. وَتُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ النَّواتَاتُ وَالبُذُورُ بِألسِنَةِ سَنَابِلِهَا وكَلِمَاتِ حَبَّاتِهَا بالمُشَاهَدةِ. وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ كُلُّ نَبَاتٍ بِغَايَةِ الوُضُوحِ وَالظُهُورِ عِنْدَ انْكِشافِ أكمَامِها وَتَبَسُّمِ بَنَاتِهَا بِأفْوَاهِ مُزَيَّنَاتِ أزاهيرِهَا وَمُنْتَظَمَاتِ سَنَابِلِهَا، بِكَلِمَاتِ مَوْزُونَاتِ بُذُورِهَا17 سُبْحَانَكَ مَا سَبَّحْنَاكَ حَقَّ تَسْبِيحِكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ والأرض وَمَنْ فيهنَّ. الآصرة الثانية: آصرة المحبة. المحبة سر من أسرار الله تعالى أودعه في جميع ذرات هذا الوجود، والكون كله قائم على هاته الآصرة العظيمة التي لا تكاد توصف بالكلمات، وذلك لأن المحبة -كما يقول الأستاذ- هي جوهر الكون كله، وبه تقوم حركة الموجودات كلها، وقوانين الانجذاب والجذب والجاذبية التي تجري في الموجودات إنما هي آتية من المحبة، وهذا يعني أن للإنسان محبين ومحبات من أفراد الكون، ليس بالمليارات والتريليونات18 والجوجلات19 بل إلى حد يعجز ألسنة البشرية وأقلامهم عند عدها وحصرها!! ولهذا تجد جبل أحد يقول عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه يحبهم ويحبونه!!20 وقد نقل الأستاذ النورسي عن بعضهم قوله: كل ذرات الوجود في نشوة المحبة، الفَلَكُ نَشوانٌ والمَلَك نَشوانٌ، النجومٌ والسَّمواتُ نَشاوى، القمرُ والشمسُ والأرض نَشاوى، والعناصر والنباتات والأشجار نَشاوى.21 وإذا كان الأمر كذلك فما ينبغي أن ننظر إلى الوجه القبيح للدنيا ونترك وجوهَها الأُخَرَ البراقةَ! وهنا قد يساورك ارتياب ويخالجك شك تعبر عنه باستفهام مفاده: هل للدنيا غير هذا الوجه القبيح الدميم بمقارنتها بكمالات الجنة وجمالها ومحاسنها، هل لها غير هذا الوجه الفاني الزائل المؤلم الخدَّاع الذي يحجب المؤمن عن معرفة الله تعالى ومحبته وعبادته ويلهيه عن الاستعداد لحياته الأخروية الباقية؟! للإجابة على السؤال المحير نقول: لو خلعت عن عينيك النظارةَ السوداءَ القاتمةَ، ونظرت إلى الدنيا تلكم النظرةَ التفاؤليةَ التي كان يملكها الأستاذ لبان لك الأمر وانجلى. فللدنيا عند الأستاذ بديع الزمان وجهان آخران مشرقان يدلان على أن الدنيا مبعث كمال إلهي وحجة له، وإذا أردت التوضيح فاستمع للأستاذ منصتا ومخبِتا -وهو يذكر لك ذينِك الوجهين- وبشِّر المخبِتين: "الوجه الاول: الذي يؤدي وظيفة مرآةٍ لأسماء الله الحسنى بالمعنى الحرفي، ويبين آثار تلك الأسماء ونقوشها، فهذا الوجه مكاتيب صمدانية لا تحد. لذا يستحق العشق لا النفور، لأنه في غاية الجمال! الوجه الثاني: الذي تكون فيه الدنيا مزرعة للآخرة، مزرعةً الجنة، موضعً أزهار أزاهير الرحمة الإلهية. وهذا الوجه جميل كالوجه الأول يستحق المحبة لا التحقير.22 وبهذا يتبين لك المقصودُ من التحقير الوارد في النصوص المقدسة للدنيا، وتكون قد هديت إلى رشد التوفيق بينها وبين النصوص الأخرى التي تذكر الموجودات بأهميةٍ بالغةٍ وإعجاب وإطراء مما جعل الدنيا مرغوبة فيها لدى الصحابة الكرام وسائر أولياء الله تعالى. ومن ثم يظهر لك خطأ الذين تركوا الدنيا فصارت في أيدي أعدائهم، ومن ثم أصبحوا عالة على غيرهم مع أن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف،23 واليد العليا المعطاء خير من اليد السفلى.24 والنورسي رحمه الله يجمل لنا القول في حب الدنيا قائلا: "اجعل حبك للدنيا وما فيها من مخلوقات بالمعنى (الحرفي) وليس بالمعنى (الاسمي) أي لمعنى ما فيها وليس لذاتها. ولا تقل لشيء: "ما أجمل هذ" بل قل: "ما أجمله خلق" أو "ما أجمل خلقه!" وإياك أن تترك ثغرة يدخل منها حبٌ لغير الله في باطن قلبك، فإن باطنه مرآة الصمد، وخاص به سبحانه وتعالى. وقل: اللّهم ارزقنا حبك وحب ما يقرّبنا إليك. وهكذا فإن جميع ما ذكرناه من أنواع المحبة، إن وجهت الوجهة الصائبة على الصورة المذكورة آنفاً، اي عندما تكون لله وفي سبيله، فإنها تورث لذة حقيقية بلا ألم. وتكون وصالاً حقاً بلا زوال، بل تزيد محبة الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن أنها محبة مشروعة وشكر لله في اللذة نفسها، وفكر في آلائه في المحبة عينها. "25 ثم يذكر لنا الأستاذ مثالا توضيحيا: "إذا أهدى إليك سلطان عظيم تفاحة -مثلاً- فإنك ستكّن لها نوعين من المحبة، وستلتذ بها بشكلين من اللذة: الأولى: المحبة التي تعود الى التفاحة، من حيث إنها فاكهة طيبة فيها لذة بقدر ما فيها من خصائص، هذه المحبة لا تعود إلى الســلـطــان. بل مَن يأكلــها بــشراهــة أمامه يبدي محبته للتفاحة وليس للسلطان، وقد لا يعجب السلطان ذلك التصرف منه، وينفر من تلك المحبة الشديدة للنفس. علاوة على أن لذة التفاحة جزئية وهي في زوال. إذ بمجرد الانتهاء من أكلها تزول اللذة وتورث الأسف. أما المحبة الثانية: فهي للتكرمة السلطانية والتفاتته اللطيفة التي ظهرت بالتفاحة.. فكأن تلك التفاحة نموذج للتوجه السلطاني، أو هي ثناء مجسّم منه. فالذي يتسلم هدية السلطان حباً وكرامةً يبدي محبته للسلطان وليس للتفاحة. علماً أن في تلك التفاحة التي صارت مظهراً للتكرمة لذة تفوق وتسمو على ألف تفاحة أخرى. فهذه اللذة هي الشكران بعينه، وهذه المحبة هي محبة ذات احترام وتوقير يليق بالسلطان. "26 وهذا المنهج الذي سلكه الإمام إنما نبع من فهمه الثاقب لمقاصد القرآن ومراميه الدقيقة. فهاهو القرآن يخاطب الأمة قائلا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.الأنفال:60 فيا ليت شِعري كيف يستعد لملاقاة العدو مَن طلَّق الدنيا ولا يملك منها ما يسد به رمقه ويستر به سوءته! ويا ليت شِعري كيف يبنى المساجد ويَعمُرها من لا ناقة له في الدنيا ولا جمل، بل ولا دجاجة ولا بيضة! ولا أدري كيف يُفَعَّلُ ركنُ الزكاة فينا ونحنُ فقراء عالة نتكفَّفُ الناسَ. وكيف يَحج بيتَ الله العتيقِ ويزوره الناس زَرافات ووحدانا وكلهم لا يستطيعون إليه سبيلا! وقولوا لي حينئذ من يَقدِر على اقتحام العقبة ويَفك الرقبةَ ويطعم في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة؟! ومن ذا الذي يُطيق أن يُبغض الكونَ الذي هو مظهر كمالات الله وجمالاته وجلالاته؟! ومن يقدر على بغض الشمس الوهاجة، والقمر المنير، والرياح اللواقح، والزهور اليانعة والأشجار المثمرة؟ والحق أقول: إن نظرة النورسي -رحمه الله- جعلته ينظر إلى الدنيا بعين المحبة والشفقة حتى بلغت به المحبة إلى مرحلة أضحى الذي يخافه الناس ويضطربون بذكر اسمه ويكرهونه محبوبا للأستاذ -رحمه الله-، فها نحن نستمع إليه وهو يذكر لنا أنه حالَما ذكر اسم عزرائيل - الذي يملأ ذكره الناس رعباً وارتجافاً - شعر بحالة ذاتِ طعم في غاية الحلاوة والسلوان، فحمد الله، وبدأ يحب عزرائيل حباً خالصاً، على أنه واحد من الملائكة الذين يعتبر الايمان بوجودهم ركناً من أركان الايمان.27 هذه النظرة الدقيقة هي التي تفهمنا مدى تأثر الكون بالإنسان وانفعاله بما يعتري الإنسان من حالات الفرح والترح والحزن والسرور، وتفهمنا حقيقة الآية الكريمة ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأرض وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾.الدخان:29 "إن هذه الآية تقول بالمفهوم المخالف: بما أن أهل الإيمان يبثون حبهم للسموات والأرض بل للموجودات جميعا بحبهم للّه، باعتبارهما مرايا عاكسة لتجليات أسمائه الحسنى، ويعرفون وظائف السموات والأرض، ويقدرونهما حق قدرهما، ويصدقون حقائقهما الحقة، ويفهمون -بالإيمان- ما تفيدان من معانٍ، ويمنحونهما ما يستحقان من القيمة والاحترام، لهذا تهتز السَّموات، وتحزن الأرض، لموت أهل الإيمان ولا تتحملان فراقَهم لأن الكائنات جميعاً مرتبطة مع أهل الايمان، وذات علاقة بهم، وراضيةٌ عنهم، وتبكيان على فراقهم، بخلاف أهل الزيغ والضلال الذين يستهينون بالسموات والأرض، ويتخذون منهما موقف العداء والإهانة والاستخفاف، وينكرون وظائفهما ويتهمونهما بالعبثية ولا يدركون معاني ما يؤديانه من مهام، ويبخسون حقهما، بل لا يعرفون خالقَهما ولا دلالاتهما على صانعهما، فإن السموات والأرض لا تبكيان على جنائزهم عند موتهم بل تدعوان عليهم وتظهران رضاهما لفراقهم وارتياحهما لهلاكهم. "28 هذا حال السموات والأرض مع المؤمن في نظر التلميذ الوفي للقرآن الكريم نعني به أستاذنا الجليل بديع الزمان. "إن تلميذ الفلسفة يفرّ من أخيه إيثاراً لنفسه، ويقيم عليه الدعوى، أما تلميذ القرآن فإنه يرى جميع عباد الله الصالحين في الأرض والسموات إخوانا له، ويشعر من أعماق روحه بأواصر شوق تشدّه نحوهم، فيدعو لهم دعاءً خالصاً نابعاً من صميم قلبه "اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات" فهو يسعد بسعادتهم. حتى إنه يرى ما هو أعظم الأشياء كالعرش الأعظم والشمس الضخمة مأموراً مسخَّراً مثله".29 ومن جانب آخر نرى للأستاذ علاقة متينة مع المخلوقات ويشفق كثيراً جداً على الأشجار والحيوانات بل حتى على الأحجار أيضاً. فعندما يرى كلباً -مثلاً- في الطريق يشفق عليه ويبادر تلاميذه بالقول: - هل لديكم كِسرة خبز؟ فيأخذها ويعطيها للكلب. ويقول: هذه حيوانات وفية، وإن عدوَها وعواءها ناشئان عن صدقها ووفائها. وكان عندما يرى في السهول السلحفاة -مثلاً- على حوافي السواقي يقول: - ما شاء الله، بارك الله، ما أجملها من مخلوق، فالصنعة والإتقان في خلقها ليس بأقل منكم. وأحيانا عندما كان الأستاذ يرى مملكة النمل أو يرى تلاميذه يحركون حجراً وتحته مملكة النمل كان يعيد الحجر إلى مكانه ويقول: لا تقلقوا راحة هذه الحيوانات. وعندما كان يلتقي في تجواله صيادي الأرانب والطيور يقول لهم: - لا تروِّعوا هذه الحيوانات ببنادقكم ولا تؤذوا غيرها. وهكذا وبهذا الأسلوب كان ينصح الصيادين الهواة. حتى جعل الكثيرين منهم يتخلون عن الصيد.30 ونختم هذه الآصرة النورسية بأبيات مثنوية:31 از محبت تلخها شیرین شود وز محبت مسها زرِّین شود ازمحبت دُردها صافی شود وز محبت دَردها شافی شود از محبت خارها گل می شود وز محبت سرکه ها مُل می شود از محبت دار تختی می شود وز محبت بار بُختی می شود از محبت سجن گلشن می شود بی محبت روضه گلخن می شود از محبت نار نوری می شود وز محبت دیو حوری می شود از محبت سنگ روغن می شود بی محبت موم آهن می شود از محبت حزن شادی می شود وز محبت غول هادی می شود از محبت نیش نوشی می شود وز محبت شیر موشی می شود از محبت سُقم صحت می شود وز محبت قهر رحمت می شود از محبت مرده، زنده می شود وز محبت شاه بنده می شود این محبت هم نتیجه دانش است کی گزافه بر چنین تختی نشست الآصرة الثالثة: آصرة المعرفة. النورسي -رحمه الله- لم يكن من الأُلَى المارِّين غير الآبـِهين بما يـجري فيما حوله من عناصر هذا الكون الفسيح والمسجد الكبير. فلا تكاد تجده يخطو خطوة أو يجلس جلسة إلا وهو متأمل فيما حوله تأمل العاشق الولهان لصانعه، المتلهف لمزيد من المعارف والتجليات التي توصله إلى خالقه. فمرة يُوَلِّي وجهَه شَطر السماء بكواكبها ونجومها الكثيرة. ومرة يذهب بفكره ويسافر صوب البحر الهائج وما يحمله من كائنات ومخلوقات متنوعة مختلفة تفوق العد والإحصاء. ومرة يتجول في السهول الممتدة على مد البصر وبين المروج المزدهرة بالأثمار والأزهار، ويتصفح كتاب الكون المنظور بنظراته الدقيقة الواعية ويقرأ ما وراءه من معان ورموز، كمن يقرأ كتاباً مفتوحاً بين يديه بكل اهتمام وذوق، وكان يقول لطلابه في أثناء ذهابهم وإيابهم في السيارة: أأنتم تطالعون كتاب الكون أيضاً؟ ثم يردف ذلك ببيان ما في جميع ذرات الكون من معارف وأدلة على العروج نحو العلا وهو يناجي خالقه وباريه قائلا: "اللّهم يا عدل. يا حكم. يا عليم. يا حكيم. إنه ليس في الرياح مَرّةٌ، ولا في السحاب قطرة، ولا في الرعود زجرة، ولا في البروق لمعة، ولا في الرياض زهرة، ولا في الجنان ثمرة، ولا في الهواء نحلة، ولا في النبات صبغة، ولا في الحيوان صنعة، ولا في الوجود زينة، ولا في الكون ذرة، ولا في الخلق نظام، ولا في الفطرة ميزان، ولا في العرش شيء، ولا في الكرسي شأن، ولا في السماء نجم، ولا في الأرض آية: إلا وهي لك أدلة شهدت، وآيات تشهد على أنك واجب، واحد، أحد، صمد، جميع الخلق مقهورون تحت قدرتك، قلوبهم في قبضتك، نواصّيهم بيدك، مقاليدهم لديك. لا تتحرك ذرة إلا بإذنك".32 ثم نرى الأستاذ وهو يعود أدراجَه ويلقي عصا التَّرحال أمام نفسه التي لطالما تأملها واستخرج الدرر من مخبوءاتـها ثم يخاطبها ويقول: "يا أيها العقل! أفِق، أين الآلة المشؤومة من مفتاح كنوز الكائنات؟ ويا أيتها العين! أبصري جيداً، أين السمسرة الدنيئة من الإمعان في المكتبة الإلهية؟ ويا أيها اللسان! ذق بحلاوة، أين بواب المعمل والاصطبل مِن ناظِر خزينةِ الرحمة الإلهية؟ إن هدايا الرحمن الجميلة -كالعقل والقلب والعين وما شابهها- ما وُهبت لك إلاّ لتهيئك لفتح أبواب السعادة الأبدية، فما أعظمها خسارة أن تتحول تلكم الهدايا إلى صورة مؤلمة تفتح لك أبواب جهنم! "33 ونحن في هذا المقام -نقولها دونما مواربة- حريٌ بنا أن نتواضع لهذا الأستاذ الجليل ونظهر إعجابنا به وبأعظم مرشدين من مرشديه القرآن الكريم والنبي العظيم صلى الله عليه وسلم ونرتل لهم هذا الترتيل قائلين: ما أعظمه من مرشد ربَّى بديع الزمان! مطالعة الكون: والأستاذ لشغفه بالمعرفة والوصول على الحقيقة كان باحوثاً عن مصادر المعرفة، وما كان يدع شيئا يراه أو يسمع به أو يخطر بباله إلا وكان يفتح له بصيرته ويطالع صفحاته مطالعة المتفائل ويعتبره آية على مولاه ومصدرا من مصادر المعرفة الموصلة للحقيقة، لذا يجعله أستاذا له ويأخذ منه الدروس والعبر. ومن هنا صرَّح بأن له ثمانين ألف أستاذ وأستاذ! وإليك جملة من أساتيذه: أولا: القرآن الكريم، يقول الأستاذ عن هذا الأستاذ الكريم: ومن أعظم الأساتيذ وأكرمهم قرآننا الكريم ونبينا العظيم صلى الله عليه وسلم. يقول الأستاذ: لما كان لي أستاذ أزلي وهو القرآن العظيم، فلا أراني مضطراً أن أبالي -ولو بقدر جناح ذبابة- في طريق الحقيقة والمعرفة، بأولئك الصقور الذين هم تلاميذ الفلسفة الملوثة بالضلالة والعقل المبتلى بالأوهام. فمهما كنت أدنى منهم درجة إلاّ أن أستاذهم أدنى بدرجات لا حدّ لها من أستاذي، فبفضل أستاذي وهمته لم تستطع المادةُ التي أغرقتهم أن تبلل قدمي. نعم! إن الجندي البسيط الحامل لأوامر سلطان عظيم وقوانينه، يمكنه أن ينجز من الأعمال مالا ينجزه مشير لدى ملك صغير".34 ثانيا: أستاذ البشرية الأكبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. يقول عنه النورسي بأن: هذا النبي الكريم ضروري كضرورة الشمس لهذا الكون؛ إذ هو أستاذ البشرية الأكبر، ونبيها الأعظم، وأعظم معلم.. وأكمل أستاذ.. وأصدق قدوة.. وأقوم رائد.35 ثالثا: سيدنا علي -رضي الله عنه- الذي هو أعظم أستاذ لطلاب رسائل النور بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، لذا يقرر بأن الشيعة والعلويين -الذين يدعون إلى محبته- إن لم يستمعوا إلى رسائل النور أزيد من أهل السنة فإن دعوى محبتهم لآل البيت ليس في محلها.36 رابعا: الأم: التي هي أول أستاذ للإنسان وأكثر من يؤثر فيه تعليماً.37 خامسا: أستاذه الفارسي الشيخ عبد القادر الكيلاني -قدس الله روحه- الطبيب المرشد لأستاذنا بكتابه "فتوح الغيب"، وأستاذه الهندي الإمام الرباني -قدس الله روحه- الأستاذ الأنيس والرءوف الشفيق بكتابه "مكتوبات".38 سادسا: جميع الموجودات من أصغر مخلوق إلى أعظمه. استمع إليه وهو يذكر لنا كيف جعل مخلوقا صغيرا أستاذا له: "كنت يوماً في جدال مع نفسي، إذ اغترت بما أنعم الله عليها، وتوهمت أنها مالكة لها، وبدأت بالفخر والمدح. فقلت لها: إنكِ لا تملكين شيئاً بل هو أمانة. فتركت الغرور والفخر. ولكنها تكاسلت قائلة: لِمَ أرعى ما ليس لي؟ وماذا عليّ لو ضاع؟ وفجأة رأيت ذبابة وقفت على يدي وبدأت بتنظيف وجهها وعينها وجناحيها وهي أمانات لديها تنظيفاً على أجمل ما يكون، مثلما ينظف الجندي سلاحه وملابسه التي سلّمتها له الدولة، فقلت لنفسي: انظري إلى هذه الذبابة، فنظرت وتعلّمت منها درساً بليغاً. وهكذا أصبح الذباب استاذاً لنفسي الكسلانة. إن فضلات الذباب لا ضرر لها من حيث الطب، بل قد تكون شراباً حلواً (وغذاء لحشرات أخرى) إذ ليس من المستبعد عن الحكمة الإلهية، بل من شأنها أن تجعل من الذباب مكائن تصفية وأجهزة استحالة، نظراً لأكلها ألوف الأصناف من مواد هي منشأ الجراثيم والسموم. نعم إن من طوائف الذباب -مما سوى النحل- طائفة تأكل المواد المتعفنة المختلفة فتقطر دوماً قطرات من مواد حلوة بدلاً من فضلاتها -كنزول المنّ على أوراق الأشجار- فتثبت أنها مكائن استحالة. وهكذا يتبين أمام الأنظار مدى عظمة أمة الذباب الصغير هذا، ومدى عظمة وظائفها. وكأنها تقول بلسان الحال: لا تنظروا إلى صغر أجسامنا بل إلى عِظَم وظائفنا. وقولوا: سبحان الله".39 الآصرة الرابعة: آصرة التسخير والتثمير. القرآن الكريم قد نص في أكثر من موضع على أن الكون بأسره مسخر للإنسان الذي أكرمه الله تعالى وجعله سيد مخلوقاته. ثم إنه كما تثمر الشجرة فكذلك الإنسان لابد أن يكون مثمرا، ومن هنا كان الإنسان هو حقاً أكرم ثمرة لشجرة الكون.40 وكما قال تعالى في تثمير النبات ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾،النحل:10-11 كذلك قال في تثمير الإنسان ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾.هود:7 أما بالنسبة لآصرة التسخير فقد قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.إبراهيم:32-34 وقال أيضا: ﴿اَللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.الجاثية:12-13 وعندما يقرأ اللبيب هاته الآيات الكريمات يستشعر مدى إكرام الله لهذا الإنسان ومدى تسخير هذا الكون العظيم بجميع ذراته لهذا الكائن الضعيف. ما أعظم إنسانا كانت الشموس والأقمار والنجوم والكواكب والجبال الرواسي والرياح والبحار والفلك الجارية وبقية العناصر مجرد خدم مسخرين له! وما أجهل هذا الإنسان الذي جعل من خدمه أسيادا له!! "وهذه الآيات تبين كيف أن الله تعالى قد خلق هذا الكون للإنسان في حكم قصر، وأرسل ماء الحياة من السماء إلى الأرض، فجعل السماء والأرض مسخرتين كأنهما خادمان عاملان على إيصال الرزق إلى الناس كافة، كما سخر له السفينة ليمنح الفرصة لكل أحد، ليستفيد من ثمار الأرض كافة، ليضمن له العيش فيتبادل الأفراد فيما بينهم ثمار سعيهم وأعمالهم. أي جعل لكل من البحر والشجر والريح أوضاعاً خاصة بحيث تكون الريح كالسوط والسفينة كالفرس والبحر كالصحراء الواسعة تحتها. كما انه سبحانه جعل الإنسان يرتبط مع كل ما في انحاء المعمورة بالسفينة وبوسائط نقل فطرية في الانهار والروافد وسيّر له الشمس والقمر وجعلهما ملاحين مأمورين لإدارة دولاب الكائنات الكبير واحضار الفصول المختلفة واعداد ما فيها من نعم إلهية. كما سخر الليل والنهار جاعلاً الليل لباساً وغطاءً ليخلد الإنسان إلى الراحة والنهار معاشاً ليتجر فيه. "41 "يذكر القرآن في هذه الآيات ما في خلق السموات والأرض من تجلي سلطنة الالوهية الذي يُظهر تجلي كمال قدرته سبحانه وعظمة ربوبيته، ويَشهد على وحدانيته.. ويذكر تجلي الربوبية في اختلاف الليل والنهار، وتجلي الرحمة بتسخير السفينة وجريانها في البحر التي هي من الوسائل العظمى للحياة الاجتماعية، وتجلي عظمة القدرة في إنزال الماء الباعث على الحياة من السماء إلى الأرض الميتة وإحيائها مع طوائفها التي تزيد على مئات الآلاف، وجعلها في صورة معرض للعجائب والغرائب.. كما يذكر تجلي الرحمة والقدرة في خلق ما لا يحد من الحيوانات المختلفة من تراب بسيط.. كما يذكر تجلي الرحمة والحكمة من توظيف الرياح بوظائف جليلة كتلقيح النباتات وتنفسها، وجعلها صالحة في ترديد انفاس الأحياء بتحريكها وإدارتها.. كما يذكر تجلي الربوبية في تسخير السحب وجمعها وتفريقها وهي معلقة بين السماء والأرض كأنها جنود منصاعون للأوامر يتفرقون للراحة ثم يجّمعون لتلقي الاوامر في عرض عظيم".42 "ثم ينظر ذلك السائح إلى "الرياح" التي تجول في الجو فيرى أن الهواء يستخدم في وظائف كثيرة، في منتهى الحكمة والكرم استخداماً كأن كل ذرة من ذرات ذلك الهواء الجامد - وهي لا تملك شعوراً - تسمع وتعي ما يلقى إليها من الأوامر الصادرة من سلطان هذا الكون. فتؤدي خدماتها بقوة ذلك الآمر وهيمنته وتنفّذها بكل انتظام ودقة دون أن تتوانى في شيء منها فتدخل هذه الذرات في استنشاق جميع أحياء الأرض للهواء، أو نقل الأصوات أو المواد الضرورية لذوي الحياة كالحرارة والضوء والكهرباء، او التوسط لتلقيح النباتات أو ما شابهها من الوظائف الكثيرة، فهي تستخدم بجميع هذه الخدمات من قبل يد غيبية استخداماً في منتهى الشعور، والعلم، والحيوية".43 وهكذا جعل (الحي القيوم -سبحانه-) الإنسانَ مركزاً للكون، ومحوراً له، بل سخّر الكون له فمدّ أمامه سفرة عظيمة عظم الكون لتتلذذ أنواع معداته المادية والمعنوية. أما حكمة قيام الكون بسر القيومية على الإنسان -من جهة- فهي للوظائف المهمة الثلاث التي أنيطت بالإنسان: "الأولى: تنظيم جميع أنواع النعم المبثوثة في الكائنات بالإنسان وربطها بأواصر المنافع التي تخص الإنسان، كما تنظَّم خرز المسبحة بالخيط، فتُربط رؤوس خيوط النعم بالإنسان ومصالحه ومنافعه. فيكون الإنسان بما يشبه فهرساً لأنواع ما في خزائن الرحمة الإلهية ونموذجاً لمحتوياتها. الوظيفة الثانية: كون الإنسان موضع خطابه سبحانه بما أودع فيه من خصائص جامعة أهّلته ليكون موضع خطابه سبحانه وتعالى، ومقدّراً لبدائع صنائعه ومعجباً بها، ونهوضه بتقديم آلاء الشكر والثناء والحمد الشعوري التام. على ما بُسط أمامه من أنواع النعم والآلاء العميمة. الوظيفة الثالثة: قيام الإنسان بحياته بمهمة مرآة عاكسة لشؤون (الحي القيوم) ولصفاته الجليلة المحيطة".44 الآصرة الخامسة: آصرة التأديب. من الأواصر الأخرى التي تربط عناصر الكون بالإنسان آصرة التأديب الذي يؤدِّبُ به عناصرُ الكونِ أخاهم في الكونية، بل سيدَهم وقائدَهم، أعني به ذلكم الإنسان الذي أكرمه الله بالسيادة على مخلوقاته بيد أنه يتغابى عن درك الأفضال الربانية عليه وينحرف عن جادة الصواب أو يغفل عن المهمة التي أوكلت إليه، فينقلب عليه جميع ذرات الوجود ويضربونه ضربة تأديب عسى أن يثوب إلى رشده ويؤوب من دَشتِ الضلالة القاحل إلى نواضر أَيْكِ الإيمان. والأستاذ النورسي -رحمه الله- يذكر لنا نوعين من هذه الآصرة، نوعا لتأديب المؤمنين عندما يغفلون، ويسمي هذا النوع بلطمات الرأفة وصفعات الرحمة.45 والنوع الثاني نوع تأديب للظلمة والكفار الذين ناصبوا العداء لأهل الحق. وضمن دائرة النوع الأول وعلى ضوء قوله تعالى ﴿ويُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَه والله رَؤوفٌ بالعِبادِ﴾،آل عمران:30 يفسر لنا الأستاذ سراً من أسرار تلكم اللطمات التأديبية الرحيمة والصفعات العتابية الرؤوفة التي تلقاها إخوتُه الأحبةُ العاملون في خدمة القرآن الكريم، وذلك من جراء أخطاء ونسيان وغفلة وقعوا فيها بمقتضى جبلتهم البشرية. ويردف ذلك بذكر لطمات من هذا النوع تلقاها هو كلما رام الخلوة بُغيةَ الجلوة. وضمن النوع الثاني يكشف لنا الأستاذ سر حَنَقِ الكائنات وغضبِها، ويذكر لنا أن ذلك كله لن يكون إلا بمحض رحمة الله بمخلوقاته وحكمته فيه، "لأن الله -سبحانه وتعالى- قد أعطى كلَّ عنصرٍ من العناصر وظائف كثيرة، فإذا ما قصّر أحد العناصر في أداء وظيفته فإن الله تعالى يأذن للعناصر الأخرى أن تقوم بوظيفة التأديب رحمة وشفقة به، ولما كان قسم من المفاسد هو عصياناً شاملاً وتعدّياً فاضحاً على حقوق كثير من المخلوقات وإهانة لها واستخفافا بها فإن ذلك يستدعي غـضب العناصر ويثير غيظها، ولاشك أن تأديب أولئك العصاة إظهاراً لبشاعة عصيانهم وجسامة جنايتهم، إنما هو عين الحكمة والعدالة، وعين الرحمة للمظلومين في الوقت نفسه. "46 وكما أن أقوى الأشياء وأعظم العناصر يستكين لأضعفِ الأشياء وأصغرها بسبب طاعته وخضوعه لمولاه واستقامته في سيره فإن أضعف الأشياء يغضب ويشتد غضبه على أقوى العناصر الذي يحيد عن الحق ويهرع إلى الضلالة والغي! وكما أن النار أضحت بردا وسلاما على إبراهيم، والغضب سكت عن البحر الهائج الغضوب لأجل معصومٍ على لوحٍ منكسر دعا بقلبٍ منكسر؛ فإنه يشتد غضبه على من جعل الحق وراءه ظهريا. وتمرده على مولاه يثير غضب الكائنات ويجعل الأرض والسموات في حنق وغيظ عليهم فتأتيه صفعات الأمراض ولطمات المصائب47 علَّه يثوب وإلى رشده يؤوب. والقرآن الكريم يعبّر لنا بأسلوبه المعجز عن غضب الكائنات وتغيّظ عناصر الكون جميعها وتهيّج الموجودات كافة من شر أهل الضلالة، عندما يصف اِشتراكَ السماء والأرض بالهجوم على قوم "نوح عليه السلام" في الطوفان، وعَصْفَ الرياح بقوم "عاد" والصيحةَ على "ثمود"، وهيجانَ الماء على قوم فرعون، ونَقمةَ الأرض على قارون.. عند رفضهم الإيمان حتى إن جهنم ﴿تكادُ تميّزُ من الغيظ﴾.الملك:8 48 ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾.مريم:90-92 والدارس لحياة الأولياء والعارفين يرى من استنفار الكون لنصرتهم والذود عنهم نماذج وأمثلة كثيرة تفوق العد والحصر، كيف لا واللهُ -تعالى- يقول كما في الحديث القدسي: من عادى

Anahtar Kelimeler:

Atıf Yapanlar
Bilgi: Bu yayına herhangi bir atıf yapılmamıştır.
Benzer Makaleler


AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization

Dergi Türü :   other

AL-NUR Academic Studies on Thought and Civilization